سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


يقول الحق جل جلاله: {وما كان الناس إلا أمةً واحدةً} موحَّدين، على الفطرة الأصلية، أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم، أو الأرواح حيث استخرجهم واستشهدهم، فاتفقوا على الإقرار، ثم اختلفوا، في عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت اخرى. {ولولا كلمة سبقتْ من ربك} في اللوح المحفوظ، بتأخير الحكم، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنه يوم الفصل والجزاء، {لقُضي بينهم} عاجلاً {فيما فيه يختلفون} بإهلاك المُبْطِل وإبقاء المحق.
الإشارة: اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء، أمر سبق به الحكم الأزلي لا محيد عنه، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {ويقولون}؛ يقول الكفار: {لولا}؛ هلا {أُنزلَ عليه آيةٌ} ظاهرة {من ربه} تدل على صدقه، يعاينُها الناس كلها، فتلجئهم إلى الإيمان به، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبي قط، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر، فيهتدي بها قوم، ويكفر بها آخرون، {فقلْ} لهم: {إنما} علم {الغيب لله} مختص به، فلم أَطََّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها، ولعله علم ما في نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم، {فانتظروا} نزول ما اقترحتموه، {إني معكم من المنتظرين} لذلك، وهذا وعد قد صدقه الله بنصرته عليه الصلاة والسلام وأخذهم ببدر وغيره، أو من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
الإشارة: ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما الغيب لله} فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد، وإحياء البلاد والعباد بذكر الله، وهذا أعظم الكرامة، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة، سيما في هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب، فلا ترى عالماً ولا صالحاً ولا منتسباً إلا وهو مغروق في بحر ظلماتها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.


قلت: {جاءتها} {إذا} وجملة {دعوا}: بدل من {ظنوا} بدل اشتمال؛ لأن دعاءهم من لوازم الظن.
يقول الحق جل جلاله: {وإذا أذقنا الناسَ رحمةً}، كصحة وعافية وخصب، {من بعد ضراءَ مَستْهم}، كمرض أو قحط {إذا لهم مكرٌ في آياتنا} بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها، فقد قحط أهل مكة حتى أكلوا الجلود والميتة، ثم رحمهم بالغيث، فطعنوا في آياته بالتكذيب، وكادوا رسوله عليه الصلاة والسلام- {قل اللهُ أسرعُ مكراً} منكم، فقد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج يمهلهم؛ لأنه متيقن واقع لا محالة، وكل آت قريب.
{إنَّ رسلنا} الحفظة {يكتبون ما تمكرون} فنجازيكم عليه. قال البيضاوي: هو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما يدبرون في إخفائه لم يَخفْ على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله. وعن يعقوب: {يمكرون} بالياء ليوافق ما قبله. اهـ. قال ابن جزي: هذه الآية للكفار، وتتضمن النهي لمن كان كذلك عن غيرهم، والمكر هنا: الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم، سماه مكراً مشاكلة لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب. اهـ.
فنزول الرحمة بعد الشدة آية تدل على كمال قدرته. وقد وَرَدَ أنه لما نزل بهم القحط التجأوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد؛ إنك جئت تأمر بمكارم الأخلاق، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله يغيثنا، فدعا، فنزل عليهم الغيث، فكانت معجزة له عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر آية أخرى فقال: {هو الذي يُسيركم} يقدرته {في البَرِّ والبحر حتى إذا كنتم في الفلك}: السفن، {وجَرَيْنَ بهم} بمن فيهم، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم، ففيه التفات. ومقتضى القياس: وجرين بكم {بريح طيبةٍ}: لينة الهبوب، {وفَرحُوا بها} لسهوله السير بها، {جاءتها ريحٌ عاصفٌ} أي: شديد الهبوب، {وجاءهم الموجُ من كل مكانٍ} من كل جهة لهيجان البحر حينئذ، {وظنوا أنهم أحيطَ بهم} أي: أهلكوا، أو سُدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط به العدو.
قال ابن عطية: ركوب البحر وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه، وكذا لضرورة المعاش بالصيد ويتصرف للتجر، وأما ركوبه لطلب الدنيا والاستكثار فمكروه عند الأكثر. قلت: ما لم يكن لبلد تجري فيه أحكام الكفار على المسلمين وإلا حرم. ثم قال: وأما ركوبه وقت ارتجاجه فممنوع، وفي الحديث: «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برِئَتْ منه الذمة» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البحر لا أركبه أبداً»
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: لولا هذا الآية، لضربت عنق من يركب البحر.
فقال ابن عباس: إني لأعلم كلمات من قالهُن عند ركوب البحر وأصابه عطب فعليّ ديته، قيل: وما هي؟ قال: اللهم يا من له السماوات خاشعة، والأرضون السبع خاضعه، والجبال الراسية طائعة، أنت خير حفظاً وأنت أرحم الراحمين، {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] صلى الله على محمد النبي المصطفى، وعلى أهل بيته، وأزواجه وذريته، وعلى جميع النبيين والمرسلين، والملائكة المقربين، {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41]. قال بعض الفضلاء: جربته فصح. اهـ.
ثم قال تعالى في وصف الكفار عند إحاطة البحر بهم: {دعوا الله مخلصين له الدين} من غير إشراك؛ لتراجع الفطرة، وزوال المعارض من شدة الخوف، قائلين: {لئن أنجيتنا من هذه} الشدة {لنكونن من الشاكرين}، {فلما أنجاهم} إجابة لدعائهم {إذ هم يبغون في الأرض} بالكفر والمعاصي، {بغير الحق} أي: سارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي والفساد في الأرض بغير حق، واحترز بقوله: {بغير الحق} عن تخريب المسلمين ديار الكفرة، وإحراق زروعهم، وقلع أشجارهم، فإنها إفساد بحق. قاله البيضاوي: قلت: وفي كونه بغياً نظر، والأظهر أن قوله: {بغير الحق} تأكيد لا مفهوم له.
{يا أيها الناس إنما بَغْيُكم على أنفسكم} فإن وباله عائد عليكم، أو على أبناء حنسكم، وذلك {متاع الحياة الدنيا} تتمتعون به ساعة، {ثم إلينا مرجعكم} في القيامة {فنُنبئكم بما كنتم تعملون} بالجزاء عليه.
الإشارة: وإذا أذقنا الناس حلاوة المعرفة والعلم، بعد ضرر الجهل والغفلة، إذا لهم مكر في آياتنا وهم الأولياء والمشايخ، الذين فتح الله بسببهم عليهم بالطعن عليهم والانتقال عنهم، كما يفعله بعض المريدين، أو جُلُّ طلبة العلم، بنسيان مشايخهم ونسيان العهد إليهم، قل الله أسرع مكراً بهم، فيريهم أن الأمداد باقية، تجري عليهم استدراجاً، ثم يحبس ذلك عنهم فتيبس أشجار معانيهم، وتظلم قلوبهم.
ثم قال تعالى: {هو الذي يُسيركم} إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة وهي ريح السلوك جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهار، لا تصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب او المحْو؛ دََعوا الله مخلصين له الدين، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8